جرش في العصور الكلاسيكية

جرش في العصور الكلاسيكية :
تمتد جذور جرش كمدينة رسمية عند احتلال المنطقة من قبل قوات من شبه الجزيرة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد. حيث احتل الاسكندر الأكبر في عام 332ق.م المنطقة المعروفة باسم "سوريا "و بدأ بتأسيس المقاطعات الاغريقية في أرجاء المنطقة ، مشيرا بذلك إلى بدء عصر جديد استمر حتى عام 63 ق.م ،وأنشئت المدن العشر الديكابوليس، وكانت كل منها مبنية على طراز المدينة اليونانية ،  وشكلت هذه المدن مراكز للثقافة الإغريقية-المقدونية ، وبالرغم من الجذور اليونانية للمدن العشر، فإن المؤرخين يقرنونها بالفترة التي تلي مباشرة الاحتلال الروماني للمنطقة عام 63ق.م بقيادة الجنرال الروماني بومبي. ومن الدلائل الأثرية التي تشير إلى الوجود الإغريقي بالموقع ،ما كشفت عنه  التنقيبات الأثرية التي أجريت عام 2001 م ،تحت أساسات السور الشمالي للمدينة، بالعثور على قبر محفور في الصخر، يضم هيكل عظمي لطفلة، وكانت  المرفقات الجنائزية عبارة عن لقى  فخارية لجمال وأبقار وثور تحمل أمفورات وبوق فخاري ينتهي برأس وأرجل حيوان،  كما عثر على بعض الحلي عبارة عن خرز مصنوع من الزجاج ، وأوراق ذهبية يبدو أنها كانت تزين ثوب الطفلة، وتؤرخ تلك المكتشفات للعصر الهلنستي المتأخر القرن الثاني ق.م ،وإلى جانب هذا القبر كشفت  التنقيبات الأثرية  عام 2008 م  ، عن قبر آخر وكانت المرفقات الجنائزية فيه، عدد من الأمفورات الفخارية، ،ومن الدلائل والمؤشرات الأخرى على الوجود الإغريقي بالموقع ، ما كشفته التنقيبات الأثرية ، عن وجود امتداد لشارع مبلط تحت أساسات الشارع الحالي، يتجه شمال -جنوب ،وينحرف مقدار سبع درجات عن الشارع الحالي،   كما أن معبد زيوس الذي يعتقد أن تاريخ بنائه يرجع للقرن الأول ق.م ، لاتزال بعض مداميك البناء في المعبد ماثلة للعيان وترجع لهذه الحقبة، حيث أعيد  توسعته والإضافة عليه في العصر الروماني .
وفي عام 63 ق.م استولت جيوش الإمبراطور الروماني  بومبي على سوريا، وأنشئت مقاطعة رومانية جديدة في سوريا ،شملت جميع  المدن العشر، وبقيت المدن العشر تشكل منطقة إدارية ضمن الولاية الرومانية العربية حتى عام 106 ميلادي ،حتى تكون على الأرجح منطقة عازلة بينهم وبين مملكة الأنباط العربية ، وإمارة الحشمونيين الذين كانوا يتنازعون على بسط وتعزيز نفوذهم.
وتركز عدد من هذه المدن شمال ووسط الأردن وهي: جداره (أم قيس)أبيلا(قويلبة) كبيتولياس(بيت راس) وبلا (طبقة فحل ) وجراسا (جرش) وفيلادلفيا (عمان). في حين تركزت باقي المدن جنوب سوريا.
وقد عمل خلفاء الإسكندر المقدوني، السلوقيين حكام سوريا والبطالمة حكام مصر ،على تأسيس هذه المدن، والتي تميزت جميعها بتبنيها الحضارة الهلنستية اليونانية وخضوعها لسلطة روما ،التي وفرت الحماية لهذه المدن وبدأ التأثير الهلنستي واضحا في القوانين، واللغة اليونانية كلغة رسمية في المعاملات ومن الآلهة التي عبدتها والأشكال المصورة على العملة المتداولة، وعلى الفسيفساء التي تشهد بدورها على هذا التأثير ،فكانت القواسم المشتركة التي تجمع هذه المدن :اللغة، الثقافة ،الديانة اليونانية. 

مدن الديكابوليس في الشرق بتصرف عن كريستيان اوجيه،الولاية الرومانية العربية، ص155-161
(المعهد الفرنسي للآثار Ifpo)

في عام 106 ميلادي أخضع الإمبراطور الروماني تراجان مملكة الأنباط وضمها للولاية العربية مثلما ضم جرش، وفيلادلفيا وعمل على تعديل التنظيم السياسي للحدود الشرقية للإمبراطورية  من خلال تأسيس مقاطعة "شبه الجزيرة العربية" ،ونتيجة  لهذا التعديل تم تقسيم المدن العشر بين مقاطعتي سوريا وشبه الجزيرة العربية وأصبحت مجموعة هذه المدن تذكر كمنطقة جغرافية محددة، فكانت الحماية التي وفرتها روما لهذه المدن سببا في توسع العمران وازدهاره خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين ، وفي عام 129م زار الامبراطور هدريان مدينة جرش ، وتكريما لهذه الزيارة ، اقام السكان قوس النص التذكاري في نهاية الجزء الجنوبي من المدينة قرب ميدان سباق الخيل الهيبدروم، ووصلت جرش قمة ازدهارها في بداية القرن الثالث الميلادي عندما اكتسبت مكانة مستعمرة رومانية (Colonia Aurelia Antoniniona) حيث سكن معظم سكان المدينة على الجانب الشرقي من النهر(الوادي) وكانت المدينة غرب النهر  هي المركز الإداري، والثقافي، والتجاري، والمدني حيث يعتقد بعض الباحثين أن سكان جرش بلغوا خلال العصر الذهبي 200000 نسمة اعتمادا على دراسة الأبنية العامة والمساحات والفضاءات، حيث تم تخطيطها ، وتنظيمها وتوزيع المساحات وفق تخطيط شبكي يمتاز بمرونته وسهولة الحركة ،  بحيث تكون الأبواب هي المداخل الرئيسة الوحيدة للمدينة ، وخصصت وفق هذه التصاميم  مساحات من الأرض لبناء المباني الدينية والمدنية ذات الطابع الرسمي ، وصممت الشوارع ،  بوجود شارعين رئيسيين ؛أحدهما يمتد شمال-جنوب يسمى الكاردو،  Cardo   وشارع يمتد باتجاه شرق -غرب يسمى ديكيومانوس Decumanus ومن هذين الشارعين نظمت الشوارع الأخرى والممرات بطريقة مستقيمة ومتوازية ومتقاطعة ،  وتناسبت  أشكال المباني مثل المعابد، والمسارح مع تضاريس الأرض المشيدة  فوقها ، وارتبط تطور شارع الأعمدة بتطور المدينة عمرانيا إذ تفتح الصروح الرئيسة للمدينة على أروقة شوارعها ، ومنشآتها العمرانية  في العصر الروماني .أما مدينة الموتى أو ما يطلق عليها Necropolis شأنها شأن المدن الرومانية المسورة  ، فكانت خارج الأسوار وتركز معظمها غرب الموقع الأثري في منطقة ظهر السرو  ، بالإضافة  إلى الجهة الشمالية حتى منطقة البركتين كما عثر على قبور في الجهة الشرقية من المدينة  والتي تعرضت للإزالة  عند بناء السكان الحاليين لبيوتهم كما وجد العديد من هذه القبور عند باب عمان في الجهة الجنوبية من الموقع ، وجاءت  نماذج هذه القبور متعددة  ،فبعضها عبارة عن غرف دفنية مقطوعة بالصخر وعلى جوانبها حفر أكثر من تجويف وصل عدد البعض منها ثلاثة عشر تجويفا وبعض منها يحوي توابيت حجرية مجسمة،  ومن دراسة الأدلة الأثرية المكتشفة ومقارنتها مع مثيلاتها ، فقد تم تأريخها للعصر الروماني المتأخر. 
وفي منتصف القرن الثالث الميلادي وبالرغم من ازدهار التجارة المحلية والبينية بين هذه المدن ، إلا أنها تأثرت بالانحطاط السياسي والاقتصادي للإمبراطورية الرومانية،  حيث تخلت عن كثير من برامجها العمرانية ويظهر ذلك بوضوح في جرش إذ لم يكتمل العمل ببعض المنشآت العمرانية التي تبنتها المدينة في القرن الثاني الميلادي، وسجلت  المسوحات الأثرية التي جرت في المدينة الأثرية وما حولها ضمن  مساحة 10كم.²
ما بين الأعوام 2005 -2010 م بإشراف David Kennedy   عثر على العديد من المواقع الاثرية  كانت في مجموعها ما يزيد عن 622 موقعا تمثلت ببقايا معمارية، وحجارة أميال، ونقوش يونانية، وعربية، ومقالع حجارة، وقبور منحوتة بالصخر، وأضرحة، وتوابيت حجرية ،ومعاصر زيت، وعنب، ترجع لعصور مختلفة ، تؤكد على النشاط الإنساني في جرش في حقب زمنية مختلفة .أما عن أقدم الفترات التاريخية بالموقع فقد أكدت الدراسات الأثرية  العثور على آثار لإنسان العصر البرونزي القديم في التل الأثري شمال المدينة داخل سور المدينة  ،وعثر على دلائل أثرية في سويتين ؛ أقدمها السوية الأثرية التي تعود للعصر البرونزي3200ق.م، والسوية الثانية تعود إلى العصر الحديدي 1200ق.

مخطط مدينة جرش الأثرية بتصرف من الباحث توماس ليبون، البعثة الفرنسية للتنقيب عن الاثار وصيانتها في جرش بإشراف الدكتور جاك سينيه(المعهد الفرنسي للاثار Ifpo)*
•    Sincere thanks are due to Prof. Jacque Seigne then IFAPO director in Amman office, and to the IFPO/Amman and to the USAID/Amman institutions for permitting us to use the illustrations (top plans and maps) inserted in the classical and the Byzantine periods text.

الشكر الجزيل للدكتور جاك سينيه الذي قام بعمل الرسومات المرفقة في نص الفترات الكلاسيكية  والرومانية والبيزنطية بتمويل من المعهد الفرنسي لدراسات المشرق  والمؤسسة الأمريكية للتعاون الدولي بعمان.