جرش في العهد العثماني

جرش في العهد العثماني : 
ومع دخول بلاد الشام تحت سيطرة العثمانيين في مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، أصبحت عجلون لواءً يتبع إلى أيالة الشام، وضم اللواء أجزاء واسعة من شمال ووسط وجنوب الأردن، باستثناء نواحي بني الأعسر التي تتشكل منها منطقة جرش، وناحية بني جهمة، وناحية بني كنانة في الشمال التي اتبعت آنذاك للواء حوران، وأعيد لاحقاً إلحاقها بلواء عجلون الذي ضمن الرقعة الجغرافية الممتدة من نهر اليرموك شمالاً، وحتى نهر (يبوق) الزرقاء جنوباً، وهناك عدد من القرى التي يشار لها في الوثائق العثمانية التي تعود للقرن السابع عشر الميلادي، ، منها جرش ويسكنها (12) خانة (أسرة) من المسلمين، وعلى الأرجح أن المقصود بذلك الجهة الشرقية من مدينة جرش الحالية التي يفصلها عن المنطقة الأثرية وادي جرش الذي تجري فيه مياه نبع القيروان، وليس المدينة الأثرية التي تؤكد المعطيات بأنها هجرت منذ قرون سابقة.

ويبدو لنا من مراجعة سجلات التحرير العثمانية التي تمثل الدولة، ان أهالي جرش كانوا يزرعون القمح والشعير والمال صيفي والأشجار المثمرة ، ويربون الماعز ، ويملكون خلايا النحل لإنتاج  العسل ، وانهم دفعوا الرسوم للدولة ، ويبدو  أن الاستيطان في جرش في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي كان محدودا ، في حين كان عدد الأسر ( الخانات ) في قرية سوف مثلا "  75 أسرة " .

ومن القرى الأخرى دبين ويسكنها (75) خانة من النصارى وبرما وفيها (32) خانة مسلمين، و(4) خانات مجرد (أعزب)، ونحلة (48) خانة من المسلمين، وساكب (12) خانة من المسلمين، وسوف (75) خانة مسلمين و(5) خانات نصارى، وريمون وفيها (18) خانة مسلمين، والجزازة (21) خانة من المسلمين، هذا إلى جانب عدد كبير من القرى والمزارع التي تغيرت مسمياتها في الوقت الحاضر، ومما يشي بكثافة الاستيطان البشري في جرش وجوارها، جودة إنتاجها الزراعي من المحاصيل الحقلية والأشجار المثمرة وفي مقدمتها أشجار الزيتون، في حين كان جزء من قرى محافظة جرش الحالية يتبع لناحية بني الأعسر ومن قراها التي احتفظت بمسمياتها حتى الوقت الحاضر قفقفا وكفر خل.

وألقى ضعف السلطنة العثمانية، وما آل إليه حالها من انحطاط وتراجع سياسي واقتصادي منذ القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر بضلاله السلبية على جنوب بلاد الشام ومنه لواء عجلون والنواحي التابعة له، وتراخت قبضة الدولة على ولاياتها، وعمت الفوضى وانعدام الأمن، وغلبت البداوة، وتصاعدت غارات القبائل البدوية على قرى الفلاحين المستقرين في الغرب، مما أدى إلى خراب القرى، التي هجرها سكانها بسبب انعدام الأمن أو نتيجة للأمراض والأوبئة التي فتكت بهم، ناهيك عن هيمنة الزعامات الإقطاعية وسيادة نظام الالتزام بالمزايدة في جباية الضرائب، وأصبحت الهيمنة لتلك الزعامات المحلية المتنفذة في جبل عجلون مثل الغزاوية وبنو مهدي، والتي خضعت بدورها للزعامات التي هيمنت على جنوب بلاد الشام، كظاهر العمر الزيداني (1159-1189ه/1746-1775م) وأحمد باشا الجزار (1189-1219ه/1775-1804م) الذين تمتعوا بالاستقلال الفعلي في إدارة مناطقهم مع التبعية الاسمية لباشا دمشق، والملفت للنظر أنه منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين اختفت الإشارة في المصادر والمظان التاريخية لنواحي بني الأعسر وبني علوان، ليحل محلها مسمى جديد وهو المعراض، وحدد الرحالة بيركهاردت (J.L.Burkhardt) الذي مر بالمنطقة في عام 1812م حدود ناحية المعراض شمالاً جبل عجلون وشرقاً الصويت، وجنوباً وادي الزرقاء وغرباً الغور، وأكد أن القرية الرئيسة فيها هي قرية سوف حيث يقيم الشيخ.

خضعت منطقة المعراض أسوة بغيرها من نواحي جبل عجلون لحكم محمد علي باشا وابنه إبراهيم (1831-1840م) وتغير مسمى لواء عجلون ليغدو "متسلمية عجلون"، وطبقت الإدارة المصرية جملة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية في بلاد الشام بهدف الحد من سطوة الزعامات الإقطاعية والقبائل البدوية، وعملت على توفير الأمن وتشجيع الأهالي على التوطن والاستقرار في القرى الخربة، وممارسة العمل الزراعي بهدف زيادة الإنتاجية، إلا إن تلك الإصلاحات لم يكتب لها النجاح بسبب فرض التجنيد الإجباري، وتجريد الأهالي من السلاح، وفرض السخرة على الفلاحين، ناهيك عن التشدد في فرض الضرائب، وأساليب الجباية المرهقة التي أثقلت كاهل الفلاحين، هذا إلى جانب الدسائس العثمانية والبريطانية والفرنسية والتي أدت بمجملها إلى إجهاض التجربة الإصلاحية للحكم المصري في بلاد الشام، واندلعت الثورات وحركات التمرد والعصيان في جميع أنحاء بلاد الشام، وامتدت إلى متسلمية عجلون سنة 1839م، بسبب شكوى الأهلين من ظلم المتسلمين والموظفين المحليين، وما ألحقوه من ظلم بالفلاحين، وعبر الأهالي عن سخطهم من خلال عرائض الاحتجاج التي رفعوها إلى إبراهيم باشا وحكمدار الشام محمد شريف باشا موقعة من مشايخ قرى عجلون ومن بين الموقعين مشايخ قرى سوف وريمون والكتة ودبين وبرما وجرش من قرى ناحية المعراض مؤرخة في سنة 1255ه/1839م عبروا فيها عن احتجاجهم على ظلم المتسلم، وتشدده في جباية الضرائب، وتجنيد  سبع أهالي القرى في سلك الجندية، وأعمال السخرة، وكثرة التكاليف الأميرية (الضرائب) المفروضة عليهم.

شهدت الفترة ما بين خروج المصريين وعودة الحكم العثماني الفعلي، وتطبيق التنظيمات الجديدة، وقانون الولايات الجديد في العام 1864م حالة من الفوضى وانعدام الأمن، وهيمنت الزعامات القبلية، وبرز الزعيم البدوي "عقيلة آغا الحاسي" الذي حاول أن يملأ الفراغ الذي عجزت الدولة العثمانية أن تملأه في منطقة جنوب بلاد الشام.

وعملت الدولة بشكل تدريجي لاستعادة سلطتها على جنوب بلاد الشام ومن بينها لواء عجلون، وأرسلت عدداً من الحملات العسكرية لردع القبائل البدوية بسبب تعاظم اعتداءاتها على قرى الفلاحين، وقدمت اقتراحات لحفظ الأمن بصورة دائمة في لواءي حوران وعجلون، من خلال تشكيل قائمقامية جديدة في قرية علعال،  بإقامة قوات لحفظ الأمن بصورة دائمة في اللوائين، إلا أن هذه المقترحات لم تنفذ على أرض الواقع، واستمرت المنطقة تحكم اسمياً من قبل ولاة لهم القليل من السلطة، في حين كانت السلطة الفعلية بيد الشيوخ المحليين الذين ينوبوا عنهم في إدارة نواحيهم، وتحصيل حصة الدولة من الضرائب المفروضة.
وأثر تطبيق قانون الولايات العثماني عام 1864م أصبحت منطقة عجلون قضاء مركزه الإداري في بلدة إربد، ويتبع للواء حوران الذي اتبع بدوره لولاية الشام، ويضم القضاء المنطقة الجغرافية الممتدة من وادي اليرموك شمالاً حتى وادي الزرقاء جنوباً، واستمرت تبعيته الإدارية إلى لواء حوران حتى نهاية الحكم العثماني لبلاد الشام عام 1918م.