ناحية جرش الفخرية:
يواجهنا في منطقة جرش نمطين من التنظيم الإداري، الأول: هو ما يمكن تسميته التقسيمات الطبيعية التي قامت على أساس الزعامات المحلية المهيمنة في فترة فراغ السلطة خلال القرنين السابع عشر والثاني عشر الميلاديين بحيث ضم لواء عجلون عدداً من النواحي منها ما ذكرناه سابقاً باسم ناحية المعراض.
والنمط الثاني وهو التنظيم الإداري الرسمي أثر تطبيق قانون الولايات العثماني بحيث ضم قضاء عجلون ناحيتين رسميتين هما ناحية كفرنجة وناحية الكورة، وناحية فخرية في جرش أشارت لها سالنامة ولاية سوريا ابتداء من عام 1884م، وهي أشبه ما تكون بناحية فخرية شرفية وامتيازاً أعطي للمهاجرين الشراكسة الذين وطنوا في جرش ولزعيمهم "عبد الحميد بن نوح بيك"، تعبيراً عن نوع من الاستقلال الإداري عن إدارة قضاء عجلون، بحيث عينت لهم الدولة مديراً منهم، وكان هذا المدير يتقاضى راتباً من الدولة، ويتولى مهمة جباية الضرائب من القرى والعشائر المجاورة، وتصفه كتب الرحالة الأوروبيون الذين مروا بجرش بأنه رجل مثقف ومتعلم ومشهور بفطنته وذكائه، ويتولى الإشراف على قوة مسلحة من الدرك ما بين (10-15) مسلحاً ودورية منتظمة من الشراكسة أنفسهم لحماية المستوطنين الشراكسة وحفظ الأمن وجمع الضرائب، كما يتولى حل جميع القضايا الصغيرة في منطقته، أما الكبيرة فيحيلها إلى متصرف لواء حوران.
واستحدثت خلال مرحلة التنظيمات عدداً من المجالس الإدارية التي يعين فيها عدد من الموظفين الإداريين في القضاء أو الناحية إضافة إلى ممثلين منتخبين عن الأهالي هم على الأغلب من الزعامات المحلية البارزة، كما عينت الدولة العثمانية مخاتير للقرى ليكونوا حلقة الوصل بين الإدارة الرسمية والأهالي، ومثل ناحية جرش في مجلس إدارة القضاء عام 1898م عبد العزيز أفندي الكايد (العتوم) واستمر ممثلاً في مجلس إدارة القضاء، وترشح في العام 1911م ليمثل قضاء عجلون في مجلس إدارة الولاية العمومي، كما ترشح لانتخابات مجلس الولاية عن حزب الحرية والائتلاف العثماني عام 1912م أحد شراكسة جرش وهو علي بك الجركسي، إلا أن عودة حزب الاتحاد والترقي للسلطة، وتدخلهم في توجيه الانتخابات لصالح مرشحهم رشيد أفندي طليع الذي فاز في الانتخابات بدعم قائمقام قضاء عجلون الذي أُجبر الأهالي على انتخابه.
ومن مظاهر الاهتمام الذي أولته الدولة العثمانية في منطقة شرق الأردن في أوائل القرن العشرين الاقتراح الذي قدمه والي سوريا آنذاك إسماعيل فاضل باشا في تقرير قدمه لنظارة (وزارة) الداخلية اقترح فيه قسمة قضاء عجلون إلى قضائين أحدهما في الشمال يكون مركزه بلدة إربد، ويسمى قضاء إربد، والثاني في الجنوب الغربي ويسمى قضاء عجلون ويكون مركزه قرية سوف، وعلق أحد المتنورين من أبناء قضاء عجلون على صفحات جريدة المقتبس في العام نفسه على اقتراح الوالي المذكور مستبعداً أن تكون قرية سوف مركزاً للقضاء الجديد المقترح لصعوبة مسالكها ويعدها من الجهة الشرقية إلى جهة البادية، وعن جماعات عربان بني حسن، فضلاً عن طبيعتها الجغرافية على سفح جبل، وليس فيها متسع للبناء، ولا يحتمل موقعها إقامة أبنية حكومية وبيوت وأسواق، وفضل أن تكون قرية جرش مركزاً للقضاء الجديد لشهرتها العظيمة، وحسن موقعها، وغزارة مياهها، وقربها من أراضي عشائر بني حسن الذين يعدون ثلث سكان القضاء، فضلاً عن سهولة البناء فيها لكثرة الحجارة الأثرية المهيأة للبناء وقربها من الجهة الشرقية مفتاح البادية، وختم مقالته بالقول بأن وجود حكومة منظمة في تلك الجهة يوطد الأمن على أحسن الدعائم، ويمنع تعديات القبائل البدوية.
وأقر مجلس إدارة قضاء عجلون في العام 1328ه/1910م تأليف قضاء جديد تكون قرية جرش مركزاً له، إلا أن هذا الاقتراح لم ينفذ بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانشغال الدولة العثمانية في الدفاع عن كيانها المهدد، ولم يكتب لهذا الاقتراح أن ينفذ إلا في العهد الفيصلي عام 1919م حيث قسم قضاء عجلون إلى قضائين مستقلين هما قضاء عجلون وقضاء جرش.
ومن أبرز ما يمكن أن يشار إليه فيما طرأ من تحولات اجتماعية واقتصادية على بلدة جرش ومحيطها، في أواخر العصر العثماني، فيما يتعلق بالتعليم، فقد تطلب التطور الحضري وزيادة عدد السكان في بلدة جرش الاهتمام بالتعليم، إذ يشار لوجود مكتب (مدرسة) ابتدائية منذ عام 1892م للذكور فيه معلم واحد، وعدد التلاميذ (51) تلميذاً، وأسوة ببقية قرى القضاء في أخريات العهد العثماني وأوائل عهد الإمارة ساهم أهالي بلدة جرش في تحمل نفقات إنشاء المدارس الابتدائية ودفع رواتب المعلمين.
وابتداءً من عام 1896م تشير الوثائق لوجود مكتب ابتدائي للإناث في قرية جرش، ويبدو أن المدرستين استمرتا بعد تأسيس الإمارة عام 1921م، كما يشار لمدرسة لدى عربان بني حسن عام 1912م، وإلى جانب المدارس الرسمية أنشأ سكان جرش من الشراكسة والشوام عدداً من الكتاتيب لتعليم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، نهضت بالتعليم بها سيدات من جرش، كما وجدت مدرسة طائفية واحدة للروم الأرثوذكس، ينهض بالتدريس فيها معلم واحد.
وأحدث استيطان الشراكسة والشوام في بلدة جرش تحولاً مهماً من النواحي الاقتصادية، إذ أدخل الشراكسة عدداً من الصناعات الحرفية لم تكن مألوفة سابقاً، منها صناعة العربات التي تجرها الثيران، كما مارسوا عدداً من الحرف التي كانت فيما مضى حكراً على العناصر المسيحية والوافدون من نابلس وأقضية فلسطين الأخرى، وأتقن الشراكسة حرفة النجارة والحدادة والإسكافية، وصناعة الجبن، كما بنو الأفران للخبز، وحذقوا في الصياغة ودبغ الجلود، وصناعة أقشطة الطواحين المائية لطحن الحبوب.
وانتعشت التجارة بين قرى جرش وما جاورها، منها تجارة القلو أو الحمض (المستخلص من نبات الدردار) الذي يستخدم في صناعة الصابون، واشتهرت بهذه التجارة عشائر بني حسن مع مدينة نابلس.
كما اشتهرت منطقة جرش بتجارة الفحم والحطب اللازم للوقود الذي كان يصدر إلى دمشق، ومارس التجار الشوام هذا الفرع من التجارة إلى جانب تجارة الغلال، واستوردوا الأقمشة بمختلف أنواعها، والمصاغ، والكاز وأدوات العطارة والحلوى، والفواكه المجففة والطازجة والسكر والشاي والأرز والقهوة والحلاوة والأواني المنزلية وأدوات الزينة والبهارات.
وساهم التطور الذي طرأ على طرق المواصلات البرية القديمة بدور ملحوظ في انفتاح جرش على ما حولها، فعمل شراكسة جرش على تمهيد طريق للعربات يربط بين الجولان وجرش، وأزالوا أنقاض الحجارة الأثرية داخل جرش لإصلاح الطرق القديمة وتوسيعها لتصبح صالحة لسير العربات، كما عملت الإدارة العثمانية على تمهيد الطرق، فاتخذ مجلس الولاية العمومي قراراً بإنشاء عدة طرق منها طريق يربط بين جرش والمفرق عام 1911م، خصصت له إدارة النافعة (الأشغال العامة) المخصصات المالية اللازمة.
وأسهم مد خط سكة حديد الحجاز بين عامي (1900-1908م) بربط المنطقة اقتصادياً بمدينة دمشق ومدينة حيفا الفلسطينية التي كانت آنذاك الميناء الرئيس لجنوب بلاد الشم، ومن خلاله كانت تصدر الحبوب التي تشتهر سهول حوران بإنتاجها الغزير منها.
ومما يمكن الإشارة إليه حول أهمية السكة الحديدية الحجازية وإدراك النابهين من أبناء بلاد الشام آنذاك لأهمية هذا الخط لاقتصاديات المنطقة وربط المدن الداخلية بشبكة من الفروع، إذ اقترح أحدهم إنشاء فرع من الخط الحديدي الحجازي يبدأ من محطة المزيريب إلى قصبة إربد- الحصن- النعيمة- جرش، وأكد في مقالته التي نشرها على صفحات جريدة المقتبس إن هذا النوع من الخط سيسهم في رفد ورادات الخط بمبالغ مالية طائلة من خلال حركة الاستيراد والتصدير، ناهيك عن انتشار العمران، وارتفاع أثمان الأراضي، وبسط الأمن.
ويبدو إن إدارة الخط اقتنعت بتنفيذ هذا الاقتراح فتقرر عام 1914م مد فروع للخط تربط ما بين درعا – الحصن – جرش، ثم إيصاله إلى محطة عمان، إلا أن اندلاع الحرب الكونية الأولى حال دون تنفيذ ذلك.
وشيد في بلدة جرش جامع باسم "جامع الحميدية العتيق" والذي يشار له بالعمري تعبيراً عن قدمه، وعمر هذا الجامع على يد جراكسة جرش عام 1298ه/1879م، كما هو مثبت على لوحة فوق المدخل الرئيسي للمسجد، وجدد بناء هذا الجامع في عهد الأمير عبد الله بن الحسين عام 1264ه/1945م، وحوت قرى جرش مقامات للأولياء والصالحين منها مقام الشيخ البكر في قرية دير الليات القريبة من جرش، ومقام الشيخ الريموني في قرية ريمون.
وشيد في بلدة جرش في أواخر العهد العثماني مبنى ذو أبراج مستديرة في زاوية فناء هيكل ارتيميس بين الآثار ليكون مخفراً للشرطة ومكاتب للموظفين واصطبلات للدواب في وقت واحد، ولا يزال قائماً حتى الآن.
ومن المباني الرئيسية التي شيدت على الطراز العمراني الحديث بيت علي الكايد العتوم في بلدة سوف الذي بدء ببنائه في أواخر القرن التاسع عشر، وتولى إعمار هذا البيت عائلة الديري التي قدمت من دير الزور في شمال سوريا، وعبد الرحمن السليم وصادق البنا اللذان قدما من فلسطين.