نشأة مدينة جرش الحديثة

نشأة مدينة جرش الحديثة:
لعل من أبرز الأسباب التي كانت وراء إعادة إعمار قرية جرش توطين المهاجرين الشراكسة الذين  وصلوا شرق الأردن ابتداء بعام 1878م،  ووطنت في جرش جماعات أخرى من الشراكسة عام 1884م نقلوا إليها من القنيطرة في الجولان، واختيرت جرش لتوطينهم لأهميتها كخربة أثرية، ووجود مصادر المياه في وادي جرش، إضافة لأهميتها كنقطة مواجهة مع البدو شرقاً، ولعشائر بني حسن التي تقطن على الأطراف الشرقية من منطقة جرش ، وقد قام والي سوريا بنقل عائلات من شراكسة الجولان بالقنيطرة بسبب المصادمات الدائمة بينهم وبين "عرب الديرة "من قبائل الولد علي وعرب الفضل ، ووصلت الأسر الشركسية التي يبلغ تعدادها 63 اسرة ومعهم 56 اسرة من الداغستان ، عبر " طريق العربات " حيث سارت عليها عربات الشراكسة المزودة بالعجلات للمرة الأولى في تاريخ بلاد الشام ، ومن المعروف بأن الدولة العثمانية اهتمت بالمهاجرين وأمدتهم بالحبوب والثيران ، وفرضت ضريبة مقدارها أربعة قروش على كل مواطن عثماني ذكر لإغاثة المهاجرين ، ودعمتهم في " ناحية كفرنجة " ب 1200 غرسة عنب ، و150 غرسة خوخ ، و39 غرسة ليمون ، و200 غرسة رمان ، وقد ادخل الشراكسة أساليب زراعية جديدة إلى المنطقة مثل حفر القنوات واستخدام العربات وشق الطرق واستخدام المطاحن على مصادر المياه .، وكان استقرار الشراكسة في الجانب الشرقي من سيل جرش في الجهة التي تقل فيها الآثار ، علما بان جرش قبل وصول الشراكسة كانت غابة كثيفة من الأشجار والأعشاب ترتادها القبائل البدوية في فصل الربيع للرعي وسقي قطعانها .

ومن المعلومات التي وصلتنا عن مهاجر أرمني نشر مذكراته في نيويورك ، ويبدو منها أن الأرمن  قدموا إلى جرش سنة 1915 م ، عندما نفتهم الدولة العثمانية عن بلادهم ، فوصلوا أولا إلى حلب في بلاد الشام ، وسافروا بالخط الحديدي الحجازي إلى درعا ، ومن محطة درعا تم نقلهم بالجمال إلى جرش ، وقد عرفوا وهم بالطريق إليها ان فيها 150 بيتا من المهاجرين الشراكسة ، وأن فيها ينابيع مياه عذبة  ،وأن عددا من التجار الشوام وصلوا إليها سنة 1910 م ، وفتحوا دكاكين في سوق جرش الذي يخدم العشائر البدوية المحيطة بجرش ، وقد اقام الأرمن في جرش بأعداد كبيرة ما بين سنتي 1915 و1918 م ، وانتشر بينهم بسبب ظروف النفي الصعبة الأمراض ومنها التيفوئيد والملاريا والكوليرا ، وأحدث الأرمن في جرش تغييرا اقتصاديا لأنهم أصحاب حرف ومهن ، فافتتحوا دكاكين في سوق جرش لممارسة مهنهم مثل الحدادة والنجارة وصنع الأمشاط وممارسة الحلاقة وتصليح الأسلحة ، وصناعة الطواحين المائية لطحن الحبوب باستغلال المصادر المائية الكثيرة ، حتى بلغ عدد المطاحن الجديدة ثماني طواحين ،وعملت نساء الأرمن في الزراعة وقطع الأخشاب من الغابات المجاورة وجلب الماء من الينابيع ، وطلبت الدولة العثمانية من المهاجرين الأرمن بجرش تعيين مختار لهم اسوة بباقي العناصر السكانية من شراكسة وشوام ، وقد أورد المهاجر الأرمني في مذكراته أنه رأى عمال التلغراف الذين جاءوا من إربد في 29 / 10 / 1917 م ينصبون أدواتهم وتم تخصيص بناية في السوق لتكون مكتبا للتلغراف في جرش ، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 م غادر المهاجرون الأرمن جرش بترتيب من الصليب الأحمر الأمريكي ، وتفرق الأرمن من المهاجرين إلى أماكن كثيرة في العالم .

ومع انتشار الأمن تحولت بلدة جرش إلى مركز تجاري استقطب عدداً من التجار الدمشقيين الذين قدموا إليها من مدينة دمشق، وفتحوا فيها محلات تجارية لبيع مال القبان بلغ عددها عام 1910م عشرين محلاً مما نشط حركة التبادل التجاري مع الشراكسة والقرى المجاورة والعربان، ونشطت حركة التبادل التجاري في تصدير منتجات قرية جرش ومحيطها من الحبوب والفحم وحطب الوقود، مقابل توفير السلع التي يحتاجها السكان في حياتهم اليومية من المأكل والملبس.

ورافق هذا التطور في دور بلدة جرش كمركز تجاري زيادة مضطردة في عدد السكان، فقدروا عام 1884م ما بين (258-300) نسمة، وقدرهم الرحالة روبنسون ليس (Robinson Lees) عام 1890م بحوالي (1000) نسمة تقريباً، كما قدرهم الرحالة جوتليب شوماخر (Gottlieb Schumacher) عام 1900م ما بين (1500-1600) نسمة، وقدر عدد بيوتها بـ (320) بيتاً، وقدرهم الرحالة كارل بيدكر (Karl Baedeker) عام 1912م بحوالي (1500) نسمة.

وتدريجياً أصبحت بلدة جرش مركز الثقل الإداري والاقتصادي، وساهم سكانها من الشراكسة مساهمة فاعلة في حفظ الأمن وجباية الضرائب لحساب الإدارة العثمانية، وانتزعوا زمام السيادة من الزعامات المحلية المتنفذة في ناحية المعراض، وأخذوا زمام الأمر من شيخ سوف وتولوا حماية الزوار، وشكلت الدولة العثمانية من شراكسة جرش والتجمعات الشركسية الأخرى في البلقاء والجولان ابتداءً من عام 1897م قوة عسكرية تألفت في البداية من مائة رجل من خيالة الجندرية باسم القوة السيارة، ومنحت تلك القوة صلاحيات واسعة لحفظ الأمن في لواءي حوران والكرك وجبل الدروز، وأسندت قيادتها لأحد هؤلاء الشراكسة وهو ميرزا بك من شراكسة عمان.